فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ولكن لأجل العناد واللجاج، وحكى أنواعًا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم، وامتد الكلام إلى هذا المقام، شرع الآن في الجواب عن تلك الشبهة فقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ}
والمعنى: أنا توافقنا على نبوّة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين في هذه الآية، وعلى أن الله تعالى أوحى إليهم، ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا ظهور المعجزات عليهم ولكل واحد منهم نوع آخر من المعجزات على التعيين، وما أنزل الله على كل واحد من أنواع المعجزات عليهم، علمنا أن هذه الشبهة زائلة، وأن إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل، وتحقيق القول فيه أن إثبات المدلول يتوقف على ثبوت الدليل، ثم إذا حصل الدليل وتم فالمطالبة بدليل آخر تكون طلبًا للزيادة وإظهارًا للتعنت واللجاج، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا اعتراض عليه لأحد بأنه لم أعطى هذا الرسول هذه المعجزة وذلك الرسول الآخر معجزًا آخر، وهذا الجواب المذكور هاهنا هو الجواب المذكور في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] إلى قوله: {قُلْ سبحان رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 93] يعني أنك إنما ادعيت الرسالة، والرسول لابد له من معجزة تدلّ على صدقه، وذلك قد حصل، وأما أن تأتي بكل ما يطلب منك فذاك ليس من شرط الرسالة، فهذا جواب معتمد عن الشبهة التي أوردها اليهود، وهو المقصود الأصلي من هذه الآية. اهـ.

.قال ابن كثير:

قال ابن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو مَعْشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} فما تلاها عليهم- يعني على اليهود- وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، ولا موسى ولا عيسى، ولا على نبي من شيء. قال: فحَلّ حُبْوته، وقال: ولا على أحد.. فأنزل الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر؛ فإن هذه الآية مكية في سورة الأنعام، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، قال الله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 153]، ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه، وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء. ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}. اهـ.

.قال الفخر:

قال الزجاج: الإيحاء الإعلام على سبيل الخفاء، قال تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] أي أشار إليهم، وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ ءامِنُواْ بِى} [المائدة: 111] وقال: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} [القصص: 7] والمراد بالوحي في هذه الآيات الثلاثة الإلهام. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ}.
هذا متصل بقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السماء} [النساء: 153] فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدّمه من الأنبياء.
وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق: نزلت في قوم من اليهود منهم سُكَين وعديّ بن زيد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله.
والوحي إعلام في خفاء؛ يقال: وحى إليه بالكلام يَحِى وَحْيًا وأوحى يُوحى إيحَاء. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلىنوح والنبيين من بعده} قال ابن عباس قال سكين وعدي بن زيد يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى فأنزل الله هذه الآيات وقيل هو جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء جملة وأحدة فأجاب الله عز وجل من سؤالهم بهذه الآية فقال: إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده والمعنى إنكم يا معشر اليهود تقرون بنبوة نوح وبجميع الأنبياء المذكورين في هذه الآية وهم اثنا عشر نبيًا والمعنى أن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك وما أنزل الله على أحد من هؤلاء المذكورين كتابًا جملة واحدة مثل ما أنزل على موسى فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب جملة واحدة على أحد هؤلاء الأنبياء قادحًا في نبوته فكذلك لم يكن إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم قادحًا في نبوته بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم.
قال المفسرون وإنما بدأ الله عز وجل بذكر نوح عليه السلام لأنه أول نبي بعث بشريعة وأول نذير على الشرك وأنزل الله عز وجل عليه عشر صحائف وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام وكان أطول الأنبياء عمرًا عاش ألف سنة لم تنقص قوته ولم يشب ولم تنقص له سن وصبر على أذى قومه طول عمره ثم ذكر الله الأنبياء من بعده جملة بقوله تعالى: {والنبيين من بعده} ثم خص جماعة من الأنبياء بالذكر لشرفهم وفضلهم فقال: {وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} وهم أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر {وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داو ذبورًا} يعني وآتينا داود كتابًا مزبورًا يعني مكتوبًا.
وقيل: الزبور بالفتح اسم الكتاب الذي أنزل على داود وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام بل كلها تسبيح وتقديس وتمجيد وثناء على الله عز وجل ومواعظ وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطير على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها فلما قارف الذنب زال عنه ذلك وقيل له ذلك أنس الطاعة وهذا ذل المعصية (ق) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارًا من مزامير آل داود» قال الحميدي زاد البرقاني قلت والله يا رسول الله لو علمت إنك تسمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيرًا، التحبير تحسين الصوت بالقراءة. اهـ.

.قال الفخر:

قالوا إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام، ثم قال تعالى: {والنبيين مِن بَعْدِهِ} ثم خصّ بعض النبيّين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله: {وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98].
واعلم أن الأنبياء المذكورين في هذه الآية سوى موسى عليه السلام اثنا عشر ولم يذكر موسى معهم، وذلك لأن اليهود قالوا: إن كنت يا محمد نبيًا فأتنا بكتاب من السماء دفعة واحدة كما أتى موسى عليه السلام بالتوراة دفعة واحدة، فالله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بأن هؤلاء الأنبياء الأثنى عشر كلهم كانوا أنبياءً ورسلًا مع أن واحدًا منهم ما أتى بكتاب مثل التوراة دفعة واحدة، ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله: {وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} يعني أنكم اعترفتم بأن الزبور من عند الله، ثم إنه ما نزل على داود دفعة واحدة في ألواح مثل ما نزلت التوراة دفعة واحدة على موسى عليه السلام في الألواح، فدل هذا على أن نزول الكتاب لا على الوجه الذي نزلت التوراة لا يقدح في كون الكتاب من عند الله، وهذا إلزام حسن قوي. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقدم نوحًا وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني، وأول الرسل، ودعوته عامّة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض، كما أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم عامّة لجميع من في الأرض.
{وأوحينا إلى ابراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان} خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفًا وتعظيمًا لهم، وبدأ بابراهيم لأنه الأب الثالث، وقدم عيسى على من بعده تحقيقًا لنبوته، وقطعًا لما رآه اليهود فيه، ودفعًا لاعتقادهم، وتعظيمًا له عندهم، وتنويهًا باتساع دائرته.
وتقدم ذكر نسب نوح وابراهيم وهارون في نسب أخيه موسى.
وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ النيسابوري نسبه فقال: أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن ابراهيم، وأمه من ولد لوط بن هاران.
وأما يونس فهو يونس بن متى.
وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه: يونس بكسر النون، وهي لغة لبعض العرب.
وقرأ النخعي وابن وثاب: بفتحها وهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر، وبعض أسد يهمز ويضم النون، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز وضم النون.
{وآتينا داود زبورًا} أي كتابًا.
وكل كتاب يسمى زبورًا، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود.
وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال، إنما هي حكم ومواعظ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس.
قيل: وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه، بدليل قوله: {ففهمناها سليمان وكلًا آتينا حكمًا وعلمًا} والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محببًا إلى بني إسرائيل معظمًا مؤثرًا، وأما سليمان فكان معظمًا عند الناس قاهرًا لهم مستحقًا له ما ذكره الله تعالى في كتابه، فجمعهما التحبيب، والتعظيم.
وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي. اهـ.

.قال القرطبي:

{إلى نُوحٍ} قدّمه لأنه أوّل نبي شُرعت على لسانه الشرائع.
وقيل غير هذا؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: أوّل نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أَخنوخ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن مُتَوشْلَخ بن أَخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيًا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيًا واتخذه خليلًا؛ وهو إبراهيم بن تَارَخ واسم تارخ آزَرَ ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يَوْبَب، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران.